حين اعترضت زوجات النبي فأدّبهن القرآن
عُرف عن النبي أنه كان يقسّم وقته بين زوجاته. وفي
قصة وردت في تفسير الطبري، عن ابن عباس، أصاب النبي أم إبراهيم القبطية في بيت زوجته حفصة، في يومها، فوجدته حفصة، فقالت: يا نبي الله لقد جئت إليّ شيئاً ما جئتَ إلى أحد من أزواجك بمثله في يومي وفي دوري، وعلى فراشي، قال: ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها؟ قالت: بلى، فحرّمها، وقال: لا تذكري ذلك لأحد، لكنها ذكرته لعائشة. للقصة نسخ مختلفة. ولكن منتهاها أن النبي حرّم على نفسه شيئاً يشتهيه من مواقعة سريته مارية القبطية، ومكث هكذا 29 ليلة، كما جاء في التفاسير المختلفة، حتى جاء القرآن ليعيد إليه ما يحبه ويهواه في مستهل سورة التحريم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. هكذا، رفع القرآن الحرج عن النبي وأعاد تحليل ما حرّمه على نفسه.
يقول القرطبي في تفسير الآية: ما كان على النبي من حرج في ما فرض الله له أي في ما شرّعه له في النساء المحللات. أي حلل لكم ملك الأيمان، فلمَ تحرّم مارية على نفسك مع تحليل الله إياها لك؟
زينب بنت جحش... "سبحان مقلّب القلوب"
لم يكن العرب غارقين في جاهلية وتخلف كما يظن البعض، بل كانت لديهم عاداتهم وتقاليدهم الذين يحكمون بها مجتمعهم، بل إن الإسلام وافق على الكثير منها. ومن الأعراف التي غيّرها الإسلام، تحريم زوجة الابن بالتبني، وكانت عند العرب كبيرة أن يتزوج الرجل حليلة ابنه بالتبني. وظل هذا العرف سائداً حتى ذهب يوماً النبي محمد إلى ابنه بالتبني زيد بن حارثة.
يقول القرطبي في تفسيره عن مقاتل: أتى (النبي) زيداً يوماً يطلبه، فأبصر زينب قائمة، كانت بيضاء جميلة جسيمة من أتم نساء قريش، فهويها وقال: سبحان الله مقلب القلوب! فسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد، ففطن زيد فقال: يا رسول الله، ائذن لي في طلاقها، فإن فيها كبراً، تعظم علي وتؤذيني بلسانها، فقال عليه السلام: أمسك عليك زوجك واتق الله. كان هذا الموقف من أشد المواقف إحراجاً للنبي، فكيف للنبي أن يطلب من زيد أن يطلق زوجته ويتزوجها هو، وزيد ابنه بالتبني؟ يقول القرطبي: ذهب قتادة وابن زيد وجماعة من المفسرين، منهم الطبري وغيره، إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه استحسان لزينب بنت جحش، وهي في عصمة زيد، وكان حريصاً على أن يطلقها زيد فيتزوجها هو. وأتت آية في سورة الأحزاب لترفع الحرج عن النبي في أن يتزوج بحليلة ابنه بالتبني: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ}.
جاء في تفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي: ما كان على النبي صلّى الله عليه وسلّم من حرج أو لوم أو مؤاخذة، في فعل ما أحله الله له، وقدره عليه، وأمره به من زواجه بزينب بعد أن طلقها ابنه بالتبني زيد بن حارثة.
النبي يستحي لكن لا حياء من الحق
روى البخاري عن أنس بن مالك أنه "لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلّم زينب بنت جحش، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا. فلما رأى ذلك قام، فلما قام صلّى الله عليه وسلّم قام معه من قام، وقعد ثلاثة نفر". ظل هؤلاء الثلاثة جالسون في بيت النبي، ولا يعرف النبي كيف يخرجهم فهو لتوه تزوج زينب بنت جحش وكأي رجل يريد أن يبقى معها لوحده. مر النبي بزوجاته يطمئن عليهن على أمل أن يمشي الثلاثة الجالسين في بيته، وظل أنس بن مالك وهو الراوي وخادم النبي ينتظر حتى انطلقوا، فذهب مسرعاً يخبر النبي، يقول أنس: فجاء حتى دخل، فذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، فأنزل الله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}. و
جاء في تفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي في تفسير هذه الآية التي وردت في سورة الأحزاب: وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم قد منعه حياؤه من أن يقول قولاً تفهمون منه ضجره من بقائكم في بيته بعد تناول طعامكم عنده... فإن الله تعالى وهو خالقكم لا يمتنع عن بيان الحق في هذه الأمور وفي غيرها، حتى تتأدبوا بأدب دينه القويم.
القبلة تتحوّل واليهود يسخرون
ليس من السهل أبداً تغيير ركن من أركان دين ناشئ، لا يزال يشق طريقه بين الناس. فالقبلة كانت في مكة باتجاه الكعبة، وحين هاجر النبي إلى المدينة حوّلها إلى المسجد الأقصى، وهي قبلة اليهود، وكان النبي يريد بذلك أن يستميل اليهود للإيمان برسالته.
يقول الحسن البصري: النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهراً، ليؤمنوا به ويتبعوه. لم تفلح مع اليهود استمالة النبي محمد بالتوجه إلى قبلتهم فأراد الرجوع إلى قبلته، فعاد للصلاة باتجاه الكعبة، فجاء الرد الفعل صادماً من الجميع.
أخرج ابن جرير عن السدي أنه قال: لما وجه النبي صلى الله عليه وسلم قبل المسجد الحرام اختلف الناس فيها فكانوا أصنافاً فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زماناً ثم تركوها وتوجهوا غيرها. وقال المسلمون: ليت شعرنا عن إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس هل يقبل الله منا ومنهم أم لا. وقال اليهود: إن محمداً اشتاق إلى بلد أبيه ومولده ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن نكون يكون هو صاحبنا الذي ننتظر. وقال المشركون من أهل مكة: تحير على محمد دينه فتوجه بقبلته إليكم وعلم أنكم أهدى منه ويوشك أن يدخل في دينكم. فور تحوّل القبلة، ردّ قوم من المسلمين إلى اليهودية وفقاً لتفسير البغوي، وتحدث الجميع عن تخبط النبي، فجاء القرآن سريعاً ليرفع الحرج عن النبي، ونزلت آيات {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} وغيرها في سورة البقرة لتدافع عن النبي وعن الهدف من تحويل القبلة، وتبرر ذلك بأنه اختبار من الله للمسلمين، وأن المشرق والمغرب لله. و
جاء في تفسير الوسيط لمحمد سيد طنطاوي: راعى القرآن الكريم عند حديثه عن مسألة القبلة، فلقد قرر وكرر، ووعد وتوعد، ووضح وبين، ليدفع كل شبهة، وليجتث كل حجة، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم، وينهض بضعفاء الإيمان إلى منزلة الراسخين في العلم.
الإفك... لا مفر من براءة إلهية
في غزوة بني المصطلق سنة ست من الهجرة وفقاً لسيرة ابن هشام،
خرجت عائشة مع النبي في الغزوة، وفي رحلة العودة ذهبت تقضي حاجتها وضاع منها عقدها، وعادت تبحث عنه، ولم ينتبه المسلمون لغيابها حين حملوا هودجها وساروا به، وحين عادت جلست مكانها تنتظر أن يكتشفوا غيابها فيعودوا لها، فمر بها صفوان بن المعطل وكان قد تخلف لبعض حاجته، وحين رآها عرفها، فأرخى البعير وركبت وعاد بها، فرماها "المنافقون"، كما وصفهم القرآن، بالزنا، وقالوا: امرأة نبيكم باتت مع رجل، والله ما نجت منه، ولا نجا منها.
البشر كعادتهم يصيبون ويخطئون لكن الفارق بين النبي والبشر جعله يجد الوحي سانداً له وداعماً إياه، حين يقع في موقف صعب، فتنزل آية تقلب الموقف من ضده إلى معه
كانت السيدة عائشة تتضايق من أن تأتي امرأة وتهب نفسها للنبي، فيقبلها دون صداق أو غيره، وعندما نزلت آية {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ} قالت له: إني لأرى ربك يسارع لك في هواك
قرابة شهر والأمر معلّق. عائشة أعرض عنها النبي، فذهبت إلى بيت أمها، والنبي لا يتكلم وصامت.
قال ابن كثير: حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين، فتكلموا به، وجوزه آخرون منهم، أي احتملوا حدوثه، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر، حتى نزل القرآن. قبل نزول الآيات، وفقاً لرواية البخاري في صحيحه، روت عائشة: دعا النبي عليّ بن أبي طالب، وأُسامة بن زيد، يستشيرهما في فراق أهله، فأما أُسامة فقال: "يا رسول الله، هم أهلك، ولا نعلم إلا خيراً" وأما عليّ فقال: "لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير". ازداد الأمر تعقيداً بعد رأي علي المؤيد للطلاق وأسامة المؤيد للبقاء. ذهب النبي إلى بيت أبو بكر حيث تمكث عائشة ابنته، فقال النبي لعائشة: "أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب، تاب الله عليه". لم
يغادر النبي من بيت أبي بكر بعد أن بكت عائشة ونفت التهمة عن نفسها، فأطمأن قلب النبي، ونزل الوحي بالآيات الواردة في سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، ليُخرج القرآن النبي من القيل والقال في أهله، ويدفع عنه الحرج.
"أهل الكهف"... أسئلة أحرجت النبي
جولات وصولات خاضتها قريش مع النبي محمد. كانت قريش تريد أن تثبت كذب النبي بشتى الطرق، إلى درجة أنهم أرسلوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي المعيط إلى أحبار اليهود بالمدينة، ليساعدوهم في إحراج النبي، ووصل النضر وعقبة إلى اليهود، فمنحوهم أسئلة يسألوها للنبي، و
ملخص الأسئلة وفقاً لسيرة ابن هشام عن أهل الكهف، ورجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وماهية الروح. "أخبركم غداً بما سألتم عنه"، كان هذا رد النبي على قريش في الأسئلة الثلاثة. لكن غاب النبي 15 ليلة، وفقاً لأغلب التفاسير. غاب دون أن يضع إجابة ضعيفة كانت أو حاسمة، حتى استهزأ أهل مكة به وبغيابه الذي طال، وقالوا بحسب رواية ابن إسحق: وعدنا محمد غداً، واليوم خمس عشرة قد أصبحنا فيها، لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه. تضمنت سورة الكهف رد النبي على أسئلة قريش، سورة كاملة بدأت بالحمد، ثم تناولت قصة أصحاب الكهف وقصة ذي القرنين، أما إجابة الروح، فجاءت في سورة الإسراء بأنها من علم الله، أما عن التأخير في الإجابة فجاءت في آيتين في سورة الكهف {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَداً (*) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ}. و
جاء في تفسير الطبري: وهذا تأديب من الله عز ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم عهد إليه أن لا يجزم على ما يحدث من الأمور أنه كائن لا محالة، إلا أن يصله بمشيئة الله، لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله.
النبي ينتقي والله "يسارع في هواه"
كانت عائشة من أكثر النساء غيرة على النبي، وكانت تضجر لكثرة نسائه، وكان أكثر ما يضايقها أن تأتي امرأة فتهب نفسها للنبي، فيقبلها دون صداق أو غيره، بل تحل له فور أن تهب نفسها، وكان النبي يقبل إحداهن ويرفض أخرى، فغارت عائشة من تلك الواهبات أنفسهن فقالت للنبي
وفقاً لسيرة ابن إسحق: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها بغير صداق، وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قد اعتزل بعضهن، وكنت على رجاء –على أمل أن يرفض الواهبات أنفسهن- فلما نزل: {تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ} أيست وقلت: إني لأرى ربك يسارع لك في هواك.
قال الشوكاني في تفسير الآية: والحاصل أن الله، سبحانه، فوّض الأمر إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم كي يصنع مع زوجاته ما شاء، من تقديم وتأخير، وعزل وإمساك، وضم من أرجأ، وإرجاء من ضم إليه، وما شاء في أمرهن فعل توسعة عليه، ونفياً للحرج عنه.